خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، للدكتور محمد حرز
خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، للدكتور محمد حرز ، بتاريخ 6 جماد أول 1446هـ ، الموافق 8 نوفمبر 2024م.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 نوفمبر 2024م بصيغة word بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، للدكتور محمد حرز.
لتحميل خطبة الجمعة القادمة 8 نوفمبر 2024م بصيغة pdf بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ، للدكتور محمد حرز.
عناصر خطبة الجمعة القادمة 8 نوفمبر 2024م بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.
أولًا : الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟
ثانيًا: هل شكرنَا اللهَ على هذه النعمةِ العظيمةِ؟
ثالثــــًا وأخيرًا: إيَّاكَ والإسرافَ في الماءِ.
ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 8 نوفمبر 2024م بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ : كما يلي:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) د. محمد حرز
بتاريخ: 7 من جمادى الأولى1446هــ– 8 نوفمبر2024م
الْحَمْدُ للهِ ربِّ العالَمين، أنزلَ منَ السماءِ ماءً بقَدَرٍ، نَقِيًّا مِنَ الشَّوائبِ والكَدَر، الحمدُ للهِ القائلِ في محكمِ التنزيلِ: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ )(الْأَنْبِيَاءِ: 30)، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، القائلُ كما في حديثِ أبي هُريرةَ رَضِيَ الله عنه، قال: ( قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي إذا رأيتُك طابَتْ نَفسي، وقرَّتْ عيني، فأنبِئْني عن كُلِّ شَيءٍ، فقال: كُلُّ شَيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ) رواه أحمد، فاللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وزدْ وباركْ على النبيِّ المختارِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ الأطهارِ وسلمْ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ. أمَّا بعدُ …..فأوصيكُم ونفسِي أيُّها الأخيارُ بتقوَى العزيزِ الغفارِ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران :102).
أيُّها الأخيارُ: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) عنوانُ وزارتِنَا وعنوانُ خطبتِنَا
عناصرُ اللقاءِ :
أولًا : الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟
ثانيًا: هل شكرنَا اللهَ على هذه النعمةِ العظيمةِ؟
ثالثــــًا وأخيرًا: إيَّاكَ والإسرافَ في الماءِ.
أيُّها السادةُ: ما أحوجنَا في هذه الدقائقِ المعدودةِ إلي أنْ يكونَ حديثُنَا عن ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) وخاصةً ونعمةُ الماءِ نعمةٌ عظيمةٌ ومنّةٌ كبيرةٌ، فلا حياةَ بدونِ الماءِ، وخاصةً ونجدُ الكثيرَ مِن الناسِ إلَّا ما رحمَ اللهُ يسرفُ في الماءِ بطريقةٍ غريبةٍ بطريقةٍ لا تُرضِى اللهَ جلَّ وعلا، وخاصةً وإنَّ مِنَ الناسِ مَنْ تَعوَّدُوا وُجُودَ النِّعْمَةِ وأَلِفُوها، فَهُمْ تَحْتَ تأثيرِ هذا الإِلْفِ وهذهِ العادةِ قَدْ يَنْسَونَ قَدْرَ هذهِ النِّعْمَةِ عليهم؛ لأَنَّها دائمًا حاضرةٌ بينَ أَيدِيهِم، ومِنْ هذهِ النِعَمِ التي قَدْ يَنْسى البعضُ أهمِّيَّتَها نِعْمَةُ الماء، فلْيتَخَيَّلْ أحدُكُم فَقْدَهُ لِهذهِ النِّعمةِ ولو لِزَمَنٍ يَسيرٍ، حينَها يعلمُ أنَّ فضلَ اللهِ عليهِ بها عظيمٌ، وأنَّ فَقْدَهَا خَطَرٌ جسيمٌ، قالَ جلَّ وعلا: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ) [الْمُلْكِ: 30)،فكان لزامًا علينَا نحنُ الدعاةُ تحذيرُ الناسِ مِن الإسرافِ في الماءِ والنداءِ بالليلِ والنهارِ بالمحافظةِ على الماءِ.
العنصر الأول من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
أولًا : الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟
أيُّها السادةُ: إنَّ نِعَمَ اللهِ على الإنسانِ كثيرةٌ وعديدةٌ لا يَحدُّها حَدٌ، ولا يُحصيهَا عَدٌّ، ولا يُستثنَى مِنْ عُمومِهَا أَحَدٌ، فَهِيَ نِعَمٌ عامَّةٌ، سابغةٌ تامّةٌ، ظاهرةٌ وباطنةٌ، قال جلَّ وعلا: )وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النَّحْلِ: 18]، ويقولُ جلَّ شأنُه )وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لُقْمَانَ: 20]، ومِنْ أجلِّ نِعَمِ اللهِ على الإنسانِ وأعظمِهَا وكُلُّها جليلةٌ وعظيمةٌ نِعْمَةُ الماءِ. الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ مَصدَرُ الحياةِ، وأعظمُ مخلوقاتِ اللهِ جلَّ وعلا ومِن أولِهَا في الوجودِ، وقد جعلَهُ اللهُ أساسَ الحياةِ وعنصرهَا، الذي تقومُ عليهِ وتبدأُ منهُ، قالَ سبحانَهُ: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء: 30)
وكيفَ لا ؟ وقد قرنَ اللهُ ذكرَ خلقِ الماءِ بخلقِ العرشِ، قالَ جلَّ وعلا: ( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) هود: 7. وكيفَ لا؟ ولولَا الماءُ ما كانَ إنسانٌ وما عاشَ حيوانٌ وما نبتَ زَرْعٌ أو شَجَرٌ، فمِنَ الماءِ يَشربُ الإنسانُ ومنهُ يَخرجُ المَرعَى، وبهِ تُكْسَى الأرضُ بِساطًا أَخضرَ، فتبدُو للناظرينَ أَجْملَ وأَنضرَ، قالَ جلَّ وعلا: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [النَّحْلِ: 10-11)، قالَ جلَّ وعلا: ( وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا ﴾ النبأ: 14، 15، الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ يلازمُ الماءُ عبادَ اللهِ المؤمنين حتى دخولِ الجنةِ، فيجدونَ فيهَا الأنهارَ والعيونَ العذبةَ ذاتَ الحسنِ والبهاءِ، يقولُ ربُّ الأرضِ والسماءِ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ)[محمد: 15]، وقالَ سبحانَهُ: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ) المرسلات:41. الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ ولعظيمِ حاجةِ الناسِ للماءِ وتشوُّفهِم لنزولِهِ ضربَ اللهُ بالماءِ أمثالًا متعددةً في القرآنِ، فلقد شبَّهَ اللهُ جلَّ وعلا الدنيَا بالماءِ في آياتٍ كثيرةٍ، قالَ جلَّ وعلا: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا ﴾ [الكهف: 45]، وجوامعُ التشبيهِ بينهمَا متعددةٌ، منها: الماءُ ليسَ لهُ قرارٌ والدنيا ليستْ دارَ قرارٍ، وقِيلَ: لأنَّ الماءَ إنْ أمسكتَهُ نتنَ وتغيَّرَ وكذلك الدنيا لِمَن أمسكَهَا بليَّةٌ! وقِيلَ: لأنَّ الماءَ يأتِي قطرةً قطرةً ويذهبُ دفعةً واحدةً، وكذلك الدنيا، والماءُ طبعُهُ النقصانُ وكذلك الدنيا.الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ جندٌ مِن جندِ اللهِ، ورحمةٌ مِن رحماتِهِ، فلقد رحمَ اللهُ بالماءِ نوحًا ونجَّاهُ مِن قومِهِ على ظهرِ سفينةٍ، وحملَ موسَى الرضيعَ وهو في التابوتِ على مائِهِ، ورحمَ اللهُ به موسَى وقومَهُ لمَّا استسقوهُ، ورحمَ بهِ رسولَنَا ﷺ وصحبَهُ الكِرامَ يومَ بَدْرٍ، وثبتَهُم وربطَ على قلوبِهِم، وحملَ جندَ الإسلامِ في ذاتِ الصوارِي زمنَ ذي النورينِ عثمانَ، والغيثُ في عامتِهِ خيرٌ ورحمةٌ، قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ الشورى: 28.
والماءُ جندٌ مِن جندِ اللهِ عذَّبَ اللهُ بهِ أقوامًا، فأغرقَ بالماءِ قومَ نوحٍ لمَّا كفرُوا باللهِ وخالفُوا أمرَهُ، وأغرقَ بهِ الطاغيةَ فرعونَ بعدَ تفاخرِهِ بالماءِ، فأعلمَهُ اللهُ قدرَهُ ونجَّاهُ ببدنِهِ؛ ليكونَ للناسِ عبرةً، وأغرقَ سبأَ بالسيلِ العَرِمِ، قالَ تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ﴾ سبأ: 15، 16.
الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ أفضلُ صدقةٍ يتصدقُ بهَا الإنسانُ سقىَ الماء ، سقْيُ الماءِ عبادةٌ مِن أفضلِ العباداتِ والأعمالِ، فعن سَعدِ بنِ عُبادَةَ رَضِي اللهُ عَنه: “أنَّ أمَّه ماتَتْ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ أمِّي ماتَت؛ أفأتصَدَّقُ عنها؟”، أي: أَتنفَعُها صدَقَتي لها، فيَعودُ عليها ثَوابُها وتُؤجَرُ بها؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: “نعَم”، فقال سعدٌ رَضِي اللهُ عَنه: “فأيُّ الصَّدقَةِ أفضَلُ؟”، أي: أيُّ أعمالِ الصَّدقاتِ تكونُ أكثَرَ أجرًا وأنفَعَ؟ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: “سَقْيُ الماءِ“، قالَ ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنه حبرُ الأمةِ وتُرجمانِ القرآنِ حينَ سُئِلَ عن أفضلِ الصَّدَقةِ، قال: الماء؛ ألم تروا إلى أهلِ النارِ حين استغاثُوا بأهلِ الجنةِ: ﴿ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ﴾ [الأعراف: 50 ) الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ بِهِ تَتَحَقَّقُ الطَّهَارَةُ: وَالطَّهَارَةُ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَهَمِّيَّتُهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: قالَ ربُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
فَالطَّهَارَةُ هِيَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، الطَّهَارَةُ شَرْطُ لصِحَّةٍ اِلصَّلَاةِ، فَلَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ. أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ))الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ -أَيْ نِصْفُهُ))، الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ قالَ جلَّ وعلا: ((فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10-12. وأَخْبَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَنَّ مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ مَنْعَ الْمَطَرِ أَوْ نُدْرَتَهُ، وَمَا يَتَرَتِّبُ عَلَيْهِ مِنْ جَدْبٍ وَقَحْطٍ: فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: ((يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ -وَذَكَرَ ﷺ مِنْهَا-: وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا)، الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ مُلْكٌ عَظِيمٌ لَا يُسَاوِي شَرْبَةَ مَاءٍ يالله لَمَّا دَخَلَ ابْنُ السَّمَّاكِ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ، وَكَانَ فِي يَدِهِ جَامٌ مِنْ مَاءٍ -أَيْ: كُوبٌ أَوْ كَأْسٌ فِيهِ مَاءٌ-، فَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ: عِظْنِي.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَرَأَيْتَ لَوُ أَنَّكَ كُنْتَ فِي صَحَرَاءَ مُجْدِبَةٍ، وَانْقَطَعَتْ بِكَ السَّبِيلُ، وَلَمْ تَجِدْ مَاءً وَلَا غِذَاءً، أَكُنْتَ تُعْطِي مَنْ يُعْطِيكَ هَذِهِ الشَّرْبَةَ الَّتِي فِي يَدِكَ نِصْفَ مُلْكِكَ؟!!وَمُلْكُهُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ الَّذِي كَانَ يُقَالُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ: لَا تَغِيبُ عَنْهُ الشَّمْسُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى السَّحَابَةِ فِي السَّمَاءِ، وَيَقُولُ لَهَا مُخَاطِبًا: ((امْطُرِي حَيْثَ شِئْتِ فَسَوْفَ يَأْتِينِي خَرَاجُكِ))، فَمَهْمَا نَزَلَ قَطْرُكِ، فَسَوْفَ يَنْزِلُ عَلَى أَرْضٍ عَلَيْهَا تُرَفْرِفُ رَايَةُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ. هَذَا الْمُلْكُ الْفَسِيحُ لَمَّا سَاوَمَ عَلَيْهِ ابْنُ السَّمَّاكِ بِكَأْسٍ مِنْ مَاءٍ، أَوْ سَاوَمَ عَلَى نِصْفِهِ بَدْءًا، قَالَ: أَكُنْتَ تُعْطِي لِمَنْ يُعْطِيكَ هَذِهِ الشَّرْبَةَ الَّتِي فِي يَدِكَ نِصْفَ مُلْكِكَ؟!!قَالَ: بَلْ أُعْطِيهِ مُلْكِي كُلَّهُ. لِأَنَّهُ لَا يُسَاوِي حِينَئِذٍ شَيْئًا، وَهَذِهِ الشَّرْبَةُ تُسَاوِي الْحَيَاةَ. حِينَئِذٍ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّكَ شَرِبْتَهَا فَاحْتُبِسَتْ فِيكَ، أَكُنْتَ تُعْطِي لِمَنْ يُخْرِجُهَا مِنْكَ نِصْفَ الْمُلْكَ الْآخَرَ؟!! قَالَ: بَلْ أُعْطِيهِ مُلْكِي كُلَّهُ. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَانْظُرْ إِلَى مُلْكٍ لَا يُسَاوِي عِنْدَ نِعَمِ اللهِ بَوْلَةً وَلَا شَرْبَةً.الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ الماءُ حقٌّ للجميعِ، قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: ((الناسُ شُركاءُ في ثلاث: الماء، والكلأ، والنار)، الماءُ وما أدراكَ ما الماءُ؟ الماءُ آيةٌ مِن آياتِ اللهِ ودليلٌ على قدرةِ اللهِ الواحدِ الديانِ، قالَ جلَّ وعلا: }أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60 ، وللهِ درُّ القائلِ:
فَيا عَجَبًا كَيفَ يُعصَى الإِلَهُ**** أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ ********تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
العنصر الثاني من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
ثانيًا: هل شكرنَا اللهَ على هذه النعمةِ العظيمةِ؟
أيُّها السادةُ: نعمةُ الماءِ مِن أجلِّ النعمِ، ومنةٌ مِن أعظمِ المننِ، وآيةٌ مِن أكبرِ الآياتِ والسننِ، بها تدومُ الحياةُ وتعيشُ جميعُ الكائناتِ، فلا غنَى لمخلوقٍ عنهَا، ولا عيشَ لهم بدونِهَا، فهل شكرنَا اللهَ جلَّ وعلا على هذه النعمةِ؟ هل أدينَا حقّهَا ؟ قالَ جلَّ وعلا : )وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7( كيفَ بنَا ؟ لو كانَ الماءُ مِلحًا أُجاجًا؛ حينَها نَعلمُ أنَّ عُذُوبةَ الماءِ نِعْمَةٌ إِلَهيَّةٌ، ومِنْحَةٌ ربَّانِيَّةٌ، تَستَوجِبُ حَمْدَ اللهِ وشُكْرَه، وتَسبِيحَهُ وذِكْرَهُ، يقولُ اللهُ -تعالى-: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ) [الْوَاقِعَةِ: 68-70)، إنَّ الماءَ في مَكَانِ الصَّدَارةِ مِنَ النِّعَمِ التي يُسألُ عنها العبدُ يومَ القيامةِ، وهوَ مِنَ النَّعِيمِ المَقْصُودِ في قولِ اللهِ -تعالى-: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التَّكَاثُرِ: 8.وقد جاءَ في الأَثَرِ: “إنَّ أوَّلَ ما يُسألُ عنهُ العَبدُ يومَ القيامةِ مِنَ النَّعِيمِ أنْ يُقالَ له: أَلَمْ نُصَحِّ لَكَ بَدنَكَ ونُرْوِكَ مِنَ الماءِ البارد؟“، ولقدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَفِيًّا بنِعْمَةِ اللهِ يُعَظِّمُها ويَشكرُها، وما أَكْثَرَ الدَّعَواتِ التي كانَ يَدعُو بِها رَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَ يَفرُغُ مِنْ طَعامِهِ إِذَا طَعِمَ وشَرابِهِ إِذَا شَرِبَ، فكانَ إذا فَرَغَ مِنْ طعامهِ وشرابهِ قال: “الحَمدُ للهِ الذي أَطعمنا وسَقَانا وجعلَنا مُسلِمِين“، وجاءَ في رِوايةٍ: كانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إذا أَكَلَ أو شَرِبَ قالَ: “الحمدُ للهِ الذي منَّ علينا وهدانا، وأشبعنا وأروانا، وكلَّ الإحسانِ آتَانا“، وكانَ إِذَا شَرِبَ الماءَ قالَ: “الحمدُ للهِ الذي سقَانا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِه، ولم يَجعلْهُ مِلْحًا أُجاجًا بِذُنُوبِنا“، إِنَّ هذهِ البَشَاشةَ التي يَستَقْبِلُ بِها رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نِعْمَةَ الماءِ وشُكرَ مُسدِيها الأعلى جلَّ شأنُه لهى أَعْظَمُ دَلَالةٍ على أَهَمِّيَّةِ هذهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَة أيها الأخيار.
كيفَ بنَا ؟ لو حرمنَا نعمةَ الماءِ يا سادةٌ، قالَ جلَّ وعلا: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30). وللهِ درُّ القائلِ:
سلْ الواحةَ الخضراءَ والماءَ جاريا .. وهذي الصحارِي والجبالَ الرواسيَا
سلْ الروضَ مزدانًا، سلْ الزهرَ والندَى .. سلْ الليلَ والأنسامَ والطيرَ شاديَا
وسلْ هذه الأكوانَ والأرضَ والسمَا .. وسلْ كلَّ شيءٍ تسمعُ الحمدَ ساريَا
فلو جنَّ هذا الليلُ وامتدَّ سرمدًا .. فمَن غيرُ ربِّي يُرجعُ الصبحَ ثانيَا !
فهل شكرنَا اللهَ على هذه النعمةِ العظيمةِ بالمحافظةِ عليهَا وبالبعدِ عن الذنوبِ والمعاصِي والآثامِ.
إِذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَاِرعَها ****فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم
وَحافِظ عَلَيها بِتَقوى الإِلَهِ****فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم
فسبحانكَ ربَّنَا ما أعظمَك فلا قدرةَ فوقَ قدرتِكَ ولا قوةَ فوقَ قوتِكَ تخلقُ ما تشاءُ وتأمرُ بمَا تشاءُ وتمسكُ ما تشاءُ عمَّن تشاءُ وترسلُ ما تشاءُ إلى مَن تشاءُ، سبحانَك ما أعظمكَ هواءٌ وماءٌ وأرضٌ وسماءٌ وبرٌّ وبحرٌ ونجومٌ وكواكبُ وإنسٌ وجنٌّ ومخلوقاتٌ كثيرةٌ ما لا نعلمُهُ منها أكثر ممَّا نعلمُهُ ومالا نراهُ منها أكثر مِن الذي نراهُ، وكلُّهُم جنودٌ للهِ خاضعونَ لعظمةِ اللهِ جلَّ جلالُه، فمَن تأملَ في هذا كلِّه علمَ وأيقنَ كمالَ قدرةِ اللهِ -تعالى-، ورحمتهِ بعبادهِ، وعظمتهِ سبحانَهُ، وأبداعهِ في خلقهِ.. وللهِ درُّ القائلِ
بك أستجيرُ ومَن يجيرُ سواكَا *** فأجرْ ضعيفًا يحتمِي بحماكَ
إنِّي ضعيفٌ أستعينُ على قوىَ *** ذنبِي ومعصيتِي ببعضِ قواكَا
أذنبتُ ياربِّي وآذتنِي ذنوبٌ *** مالَها مِن غافرٍ إلّا كَا
دنياي غرتنِي وعفوكَ غرنِّي *** ماحيلتِي في هذهِ أو ذا كَا
يا غافرَ الذنبِ العظيمِ وقابلًا *** للتوبِ قلبٌ تائبٌ ناجاكَا
أتردَّهُ وتردَّ صادقَ توبتِي *** حاشَاكَ ترفضُ تائبًا حاشا
فليرضَ عنِّي الناسُ أو فليسخطُوا *** أنَا لم أعدْ أسعَى لغيرِ رضاكَا
أقولُ قولِي هذا واستغفرُ اللهَ العظيمَ لِي ولكم
الخطبةُ الثانيةُ… الحمدُ للهِ ولا حمدَ إلّا لهُ، وبسمِ اللهِ ولا يُستعانُ إلّا بهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَه وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ……… وبعدُ
العنصر الثالث من خطبة الجمعة القادمة بعنوان : وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ
ثالثــــًا وأخيرًا:إيّاكَ والإسرافَ في الماءِ.
أيُّها السادةُ: إنَّ شُكْرَ اللهِ -تباركَ وتعالَى- على نِعْمَةِ الماءِ لا يقتصرُ على الشُّكْرِ باللسانِ، بلْ يَتعدَّاهُ إلى الشُّكْرِ بِحُسْنِ التَّصرُّفِ فيهِ وحُسْنِ استِغْلَالِه، والاقتصادِ والتَّرشِيدِ في استِعمالِه، فأَيُّ إِسْرافٍ في استِعْمَالِ الماءِ هوَ تصرُّفٌ سيّءٌ وسلوكٌ غيرُ حَميدٍ، جاءَ النهيُ عنهُ صَرِيحًا في القُرآنِ المجيدِ، يقولُ اللهُ -تعالى- : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) الْأَعْرَافِ: 31]، وإذا كانَ الإسرافُ في استعمالِ الماءِ لِلشُّربِ مَنْهيًّا عنهُ وممنوعًا مِنْهُ فإِنَّ استعمالَه بإِسْرافٍ في مجالاتٍ أُخْرَى أَكْثَرُ مَنْعًا وأشدُّ خَطَرًا، وقد وردَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أنهُ كانَ إذا اغتسلَ اغتسلَ بالقلِيلِ، وإذا تَوضَّأَ تَوضأ بالنَّزْرِ اليَسيرِ، فعَنْ أنسٍ tقالَ: “كانَ النبيُّ ﷺ يغتسلُ بالصَّاعِ إلى خمسةِ أمدادٍ، ويتوضَّأُ بالمُدِّ“، والمُدُّ مِلءُ اليدَينِ المُتوسِّطَتَين، وإذا كانَ الاقتصادُ في استعمالِ الماءِ في العبادةِ مَطْلُوبًا وعَمَلًا مَرغُوبًا فَالاقتصادُ في غيرِ العبادةِ أَولَى وأَحرى، وإنْ كانَ الَّذي يُغرَفُ مِنْهُ نَهْرًا أَوْ بَحْرًا. وفي حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ النبيَّ ﷺ مرَّ بسعدٍ وهو يتوضأُ فقال: “ما هذا السَّرفُ يا سعدُ قال أفي الوضوءِ سرفٌ قال: نعم وإن كنتَ على نهَرِ جارٍ”
فالمحافظةُ على الماءِ مطلبٌ شرعيٌ، وواجبٌ وطنيٌ، ومَسْؤولـيَّةٌ ووَفَاءٌ تقعُ على عاتقِ الجميعِ، فاللهَ اللهَ في المحافظةِ على الماءِ، اللهَ اللهَ في عدمِ الاسرافِ في الماءِ.
حفظَ اللهُ مصرَ مِن كيدِ الكائدين، وشرِّ الفاسدين، وحقدِ الحاقدين، ومكرِ الـماكرين، واعتداءِ الـمعتدين، وإرجافِ الـمُرجفين، وخيانةِ الخائنين.
كتبه العبد الفقير إلى عفو ربه
د/ محمد حرز
إمام بوزارة الأوقاف
_______________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة القادمة
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع و خطبة الجمعة القادمة
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف